
هل أدباء الإسكندرية دود تحت الطوب ؟
قابلت الأستاذ فتحي الإبياري في شقته على بحر الإسكندرية بعد أن إنفض عنه أصدقاؤه وتلاميذه – رغم كل ما قدمه إليهم من مساعدة وعون- للأسف تركوه بعد أن أصبح غير قادر على أن يفعل لهم، ما كان يفعله في شبابه من أجلهم. قال لي: إن أدباء الإسكندرية مجرد دود يتصارع تحت الطوب، فلا يراهم أحد، ولا يحس بهم أحد.
أدهشتني هذه العبارة، لا لإنني أرفضها أو أختلف معها؛ وإنما لأن أحد تلاميذ فتحي الإبياري إدعى – أمامي – بإنه مخترع هذا القول وأول من ذكره.، لكن فتحي الإبياري أكد لي بإنه أول من نطق بهذا القول، وأن تلميذه هذا سمعها منه، فنسبها لنفسه، وظل يرددها في كل مكان.
كان لفتحي الإبياري دور كبير في رواج الثقافة بالإسكندرية قبل أن ينتقل للعمل في القاهرة يعمل في مجلة من مجلاتها المهمة، وقد إعتبره القاهريون – وقتها – شيخ حارة أدباء الإسكندرية والمتحدث بإسمهم، وإنه قنصل الإسكندرية في القاهرة، فإذا أرادوا التحري عن كاتب سكندري؛ ذهبوا إلي فتحي الإبياري وسألوه عنه. وإذا أرادوا إصدار عددا خاصا من مجلة ما عن الإسكندرية؛ توجهوا إلي فتحي الإبياري وأخذوا بنصيحته. وعندما أراد المذيع المشهور فاروق شوشة تخصيص حلقة من برنامجه التلفزيوني المشهور – الذي يحاور فيه الأدباء والمثقفين – عن الإسكندرية، سعى إلي فتحي الإبياري ليختار الأدباء السكندريين الذين سيشاركونه اللقاء، ويومها أوعز فتحي الإبياري إلى أحد تلاميذه – المشاركين في اللقاء- بأن يزعم بأن كل النشاط الثقافي والأدبي في الإسكندرية، من صنع فتحي الإبياري رغم بقاؤه في القاهرة.
…..
كلمة فتجي الإبياري عن الدود الذي يتصارع بعيدا عن أعين القاهريين – ذكرتني بأقوال كثيرة مشابهة، فأحد كتاب المسرح قال عن ممثلي الإسكندرية الذين يمثلون في قصور الثقافة – بعد أن فتح الله عليه وإنتقل للقاهرة: إن أحلامهم لا تتعدى محطة السكة الحديد.
وقد تقابلت وصديقي محمود قاسم بالأستاذ فتحي الإبياري في هيئة الكتاب بالقاهرة – أيام كان في أوج شهرته – فأخبره محمود بأنه تم تعيينه في دار الهلال في القاهرة، وسينتقل إليها أول الشهر القادم. فقال فتحي الإبياري: كده حاتبقى بني آدم.
قالها أمامي دون مراعاة لشعوري، فأنا طبقاً لقوله لست آدميا لإنني مازلت أعيش في الإسكندرية بعيدا عن القاهرة.
وقد كنت أسعد عندما يصفونني بالكاتب السكندري، وحذرني البعض من أن هذا يعني بأنني مجرد كاتب إقليمي محدود؛ ولم أرق إلى مصاف الكتاب المعدودين في مصر. فقلت لهم: إنه شرف لي أن أحقق ما حققته، ومازلت في إسكندريتي.
لكن الأيام مرت، والسنوات عدت، وإذ بالإسكندرية تخنقني داخلها، كل شيء تغير وشباب صغير ظهر وأشرف على نشر القصص في المجلات والجرائد التي أنشر فيها منذ سنوات طويلة. أحدهم يعاملني وكأنني كاتب مبتدئ، وإستطعت أن أحصل على رقم تليفون بيته لكي أتصل به بعد الظهر لصعوبة الإتصال به في المجلة التي يعمل بها فالخط مشغول معظم الوقت. فإذ به يرفض الرد علىّ وكأنني مؤلف أغاني مبتدئ يطارد ملحن كبير ليأخذ منه أغنية يلحنها.
وقد كنا في مؤمر أدبي بدولة العراق، فزعم شاعر قاهري – ونحن في مدينة بغداد – بإنه يعقد إمتحاناً لأدباء الأقاليم، والذي ينجح منهم يوافق على إرساله إلى العراق ليحضر المؤتمرات والمهرجانات الشعرية، يعني إحنا كتاب الأقاليم مفضوحون حتى خارج بلادنا.
وجاء منذ شهور قليلة أستاذ جامعي يمارس النقد أيضا لمناقشة رواية لكاتب سكندري، فحدثه صديق لي عني وأثنى على أعمالي، فقال الأستاذ الجامعي: بس أحنا ما بنشوفهوش في المنتديات الأدبية في القاهرة.
قالها بطريقة توحي بأن هذا عيب من العيوب. فصحت فيه قائلا: ولماذا تريد أن تراني، المهم أن تقرأ أعمالي.
حديث الأستاذ فتحي الإبياري عن الدود الذي يسري وينمو بين كتاب الإسكندرية، قد أعاد إلي المواجع والأحزان فقد أعلنوا عن صدور سلسلة أدبية جديدة لنشر الشعر والقصص والمسرحيات، فجعلوها لمبتدئي القاهرة وأعلام الأقاليم. كأن الكاتب القاهري المبتدئ يتساوى مع أهم الكتاب الذين يعيشون خارج القاهرة.
ومشروع كتاب الأسرة – الذي أتاح لنا فرصة إمتلاك كتباً كم تمنينا إمتلاكها، وكان غلو ثمنها يمنعنا من ذلك – أضر بنا – أيضا – فقد نشر للعديد من الكتاب الأقل شأناً ومقدرة لإنهم أمام مسئولي السلسلة؛ ويعرفون كيف الوصول إليهم، أضر بنا المشروع بأن عطل كتبنا التي تطبع في هيئة الكتاب وأخر صدور المجلات التي تصدرها الهيئة وكنا نجد فيها متنفساً لنا.
…..
إننا دود يتصارع تحت الطوب رغم وجود جامعة عريقة وأساتذة في كليتي الآداب والتربية يمارسون النقد والأدب، ورغم وجود إذاعة يزيد عمرها عن الخمسين عاما، وقناة تلفزيونية.
وبمناسبة الإذاعة والتلفزيون؛ فلنكن صرحاء فالإسكندرية أفضل لها أن تكون بلا إذاعة أو قناة تلفزيونية، فما فائدتهما لنا؟! الإذاعة التي كانت رائدة في إذاعة المسلسلات التمثيلية، وكانت تتعامل مع كبار مؤلفي الأغاني؛ إمتنعت الآن عن إنتاج المسلسلات والأغاني، وذلك ترشيدا للإنفاق وللمحافظة على المال العام؛ لكي تنفق الدولة على الإذاعات الأم والقناتين الرئيسيتين الأولى والثانية، وربما الثالثة أيضا، فعادة ما يقع عبء ترشيد الإنفاق على عاتق الإذاعات والقنوات التلفزيونية المحلية، فإذاعة الإسكندرية تعيش الآن على إعادة ما سبق إذاعته، وقناة التلفزيون تعيد المسلسلات التي سبق عرضها في القناة الأولى والثانية. المهم أن يعلن المسئولون بأن لدينا كذا قناة تلفزيونية وكذا إذاعة، وليس مهماً ما يحدث فيها. ما فائدة هذه الإذاعات والقنوات المحلية الكثيرة ما دامت غير قادرة على تقديم الأعمال التي تعبر عن مناطقها وبيئتها.
…..
ذكرتني كلمة الأستاذ فتحي الإبياري عن الدود الذي يسري وينمو ويتحرك تحت الطوب، بحكاية طريفة حدثت، فقد أحس أحد موظفي الثقافة أن بقاءه في الإسكندرية لن يعطيه الفرصة لكي يكون رئيساً لجهاز الثقافة فيها حتى لو كان مستحقا لذلك، لأن السيدات – زميلاته – سيطرن على كل الأمور، ولسنوات طويلة جدا وكل القيادات من السيدات، فتوصل هذا الموظف إلى حل يجعله يتفوق عليهن، فتقدم بطلب ونقل نفسه إلى القاهرة فأصبح قريباً من صنّاع القرار في الوزارة التابع لها، كل يوم يرونه ويراهم ويلمسهم ويلمسونه، تحمل المشاق وإبتعد عن أسرته خمسة أيام أسبوعيا – فالخميس والجمعة أجازة – وتحمل المصاريف إلى أن وصل لما يريد، فقد تم إختياره فعلا لرئاسة الجهاز الثقافي في الإسكندرية. ولو ظل في مكانه بالإسكندرية ما تذكره أحد ولإحتلت هذا المنصب واحدة من السيدات هناك.
أشعرتني كلمة فتحي الإبياري بالشجن، وذكرتني بما حدث في جمعية الشبان المسيحية، عندما أقام المرحوم صبري أبو علم ندوة لممثلي الإسكندرية، فكانت ندوة حزينة، مجموعة من الممثلين الجيدين يجترون أحزانهم، أحدهم كان حزيناً وغير راغب في التحدث، وعندما ألحوا عليه قال: تعبنا من هذا الموضوع، إنه حديث الذكريات، كل عدة سنوات نجتمع لننعى همنا.
دود يتصارع تحت الطوب، ممثلون جيدون رفضوا الذهاب إلى القاهرة – مثل غيرهم من السكندريين الذين أثبتوا جدارتهم ونجحوا – فضاعت عليهم الفرصة في الإسكندرية.
مخرج مسرحي كبير جاء من القاهرة إلى الإسكندرية وتحدث في مسرح سيد درويش قائلا: جئنا لنحرك الماء الراكد في الإسكندرية.
ولم يحرك شيئاً وظل الماء راكداً كما هو.
وندوة قديمة في قصر ثقافة الحرية في عز الحر، الفنانون الكبار يجلسون على المنصة: سناء جميل، وكمال ياسين وأمين الهنيدي عليهم رحمة الله. كان كل شيء هادئا إلى أن قالت سناء جميل: أنا بشوف ممثلي الإسكندرية يتسولون أدوارا في أروقة مبنى الإذاعة والتلفزيون.
وثار الممثلون. لم تكن سناء جميل تقصد الإساءة لأحد. لكنها – مثل غيرها – تظن أن العيب في الأدباء وفناني الإسكندرية: لابد أن تبقوا في مدينتكم وتفرضوا أدبكم وفنكم على مصر كلها.
هكذا أرادت الفنانة سناء جميل أن تقول، وهكذا قال لنا الأدباء الكبار مرات عديدة، فكيف يحدث هذا؟ أين المجلات والجرائد السكندرية التي تنشر لنا؟! وأين النقود التي تمول الفرق المسرحية، حتى الإذاعة – المتنفس الوحيد للممثلين وكتاب التمثيليات – أوقفوا الدراما فيها، وكيف تصدر جريدة أو مجلة كبيرة وهي لا تجد من يمولها.
وذلك ذكرني بروائي سكندري رحل إلى القاهرة وحقق شهرة كبيرة فيها، لكنه مر بظروف عائلية صعبة بعد موت زوجته، ففكر في أن يعود إلى الإسكندرية ويعيش فيها، وقال لي: لقد حققت شهرة كبيرة في القاهرة، ويمكنني أن أمارس عملي من الإسكندرية.
لكنه لم يفعل، عاد إلى القاهرة كما كان وأكمل مشواره، وعندما قابلته، سألته: لماذا عدت إلى القاهرة ثانية؟
قال: وجدت أني سأضيِّع كل ما فعلته إذا بقيت في الإسكندرية.
…..
أعتقد أن ما يحدث في مصر ليس له مثيل في أي مكان في العالم، فهو على رأي الممثل السكندري المغمور – والذي صار مغمورا لأن ظروفه الأسرية لم تسمح له بالسفر والعيش في القاهرة – : إنه حديث الذكريات .
وسوف يمر العمر دون أن تحل المشكلة، وسيأتي سكندريون آخرون ليشكوا من سيطرة القاهرة والقاهريون على كل شيء، وسيقولون أن فوكنر حصل على جائزة نوبل ولم يبرح الجنوب الأميركي، وأن فلانا وفلانا فعلا كذا وكذا دون أن يرحلا إلى عاصمة بلادهما، لكن لمصر قانونها المختلف.






