Jannah Theme License is not validated, Go to the theme options page to validate the license, You need a single license for each domain name.
مقالات

مهنة التدريس في مصر

الأديب السكندرى مصطفي نصر يكتب

يقول أحمد شوقي عن المدرس :
قُـم لِـلـمُـعَـلِّمِ وَفِّهِ التَبجيلا كـادَ الـمُـعَـلِّمُ أَن يَكونَ رَسولا
أَعَـلِـمتَ أَشرَفَ أَو أَجَلَّ مِنَ الَّذي يَـبـنـي وَيُـنشِئُ أَنفُساً وَعُقولا
سُـبـحـانَـكَ الـلَهُمَّ خَير مُعَلِّمٍ عـلَّـمـتَ بِـالقَلَمِ القُرون الأولى
أَخـرَجـتَ هَذا العَقلَ مِن ظُلُماتِهِ وَهَـدَيـتَـهُ الـنـورَ المُبينَ سَبيلا
والمعلم في حياتنا له دور كبير، ولا ينتهى دوره بإنتهاء فترة التعليم في حياتنا، فتجده في فترة العمل، في مختلف أنواع الأعمال، فعندما عملت في إدارة الحسابات كان لي أساتذة تعلمت العمل على أيديهم، وفي مهنة الكتابة تتلمذت على الكثيرين، والكثير لهم أفضال عليّ، وقد شاهدتُ الدكتور ثروت عكاشة جالساً أمام المرحومة سميرة العرابي مدير عام مطابع هيئة الكتاب، كان يراجع كتابا تطبعه له هيئة الكتاب، تمنيتُ حينذاك أن أقبل يده التي كتبتْ الروائع التي أحببتها، فهو ويحيي حقي، كانا إذا أعجبا بكتاب أجنبي، يترجمانه إلى العربية، ليتمتع به باقي العرب كما تمتعا به. لكنني خجلت من أن اقترب منه وأعبر له عن إعجابي وإمتناني له.
وحكى لي الصديق صبري أبو علم بأنه شاهد السيناريست الموهوب محمود الطوخي وهو ينحني على ركبتيه ويقبل يد السيناريست الكبير محفوظ عبد الرحمن.
وقد كنتُ جالساً في مدخل مبني الإذاعة والتلفزيون، وفجأة دخل الكاتب الكبير عبد الرحمن الشرقاوي ممسكا بعصاه، ووقف لدقائق يتحدث مع موظفة في المبني، ثم جاء وجلس بجواري على المقعد الأحمر المستدير، فجاء شاعر لا أعرفه فوقف الشرقاوي ليصافحه، فإذ بالشاعر ينحني ويقبل يده، – عرفتُ إنه شاعر من حديثهما عن الشعر والشعراء.
…….
لكن التراث العربي ‘تخذ موقفا سخيفا من معلمي الأطفال، فيقولون: لا تستشير معلم الأطفال ولا حاصر بول ولا كثير القعود مع النساء.
وقد زار الجاحظ أحد معلمي الأطفال في دكانه، وتحدث معه، فوجده عالماً بالقرآن وفقيها في النحو وشاعرا أديبا، فقال له: كنتُ قد قررت أن أكتب كتاباً عن نوادر معلمي الأطفال، لكنني وجدتك عالما فقيها عاقلا، فإمتنعت عن كتابة هذا الكتاب.
ومر الجاحظ بعد ثلاثة أيام فوجد دكان معلم الأطفال مغلقا، فسأل جيرانه عنه، فقالوا: عنده ميت.
فزاره في بيته، فوجده حزينا باكيا، فسأله عن التي ماتت له، هل هي أمك؟
فقال وهو يبكس: لا.
فسأله الجاحظ : هل هي أختك؟
فقال: لا.
إلى أن قال إنها حبيبته، وعرف الجاحظ إنه لم يرها ولا يعرفها، إنما أحبها بسبب ما سمعه من رجل ينشد شعرا وهو يمر من أمام الدكان قائلا:
يا أم عمرو جزاك الله مكرمة ردي عليّ فؤادي أينما كانا
فأحبها الرجل على السيرة، فما دام هذا الشاعر يصفها بهذا الجمال، فلابد أن تكون جميلة.
وبعد أيام سمع معلم الأطفال نفس الرجل الذي كان يمدح في حمال هذه المرأة، يقول في حزن وأسى:
لقد ذهب الحِمار بأم عمرو فلا رجعت ولا رجع الحمار
وعلم إنها ماتت عندما سمع نفس الشاعر ينعيها بشعره وهو مار بجوار الدكان .
فقرر الجاحظ أن يعود للكتابة عن نوادر معلمي الأطفال، ويبدأ بهذا الرجل.
وفي هذا الكتاب يحكي الجاحظ عن معلم أطفال، كان يقف أمام أحد الديار، وينبح ككلب، فسأله أحدهم عن سبب فعله هذا، فقال: في هذا البيت يسكن أحد تلاميذي، أعرف إنه يحب اللعب مع الكلاب، فلو ناديته سيتهرب مني، لكن عندما أنبح ككلب، يخرج الولد فرحا لملاقاة الكلب، فأمسكه وآخذه إلى دكاني بالقوة.
علما بأن الكثير من معلمي الأطفال كانوا زعماء وقادة في الحروب: فقد كان الحجاج بن يوسف الثقفي القائد العسكري في الدولة الأموية معلما للأطفال في بداية حياته، وكذلك كان عمر المختار البطل الليبي العظيم الذي حارب الجيش الإيطالي المحتل لليبيا، وعمل حسن البنا – مؤسس جماعة الإخوان المسلمين -معلما للأطفال في مدينة الإسماعيلية.
تذكرتً هذا بمناسبة الحديث الكثير عن مدرس زفتا الذي ضرب أطفال الحضانة الصغار بقسوة، مما أثارنا وجعلنا نغتاظ منه، ونسبه وندعي عليه في غيابه. لكن بعض الناس إختلف موقفهم منه، وباركوا فعله، على أساس إن هذه هي الطريقة المُثلي لتعليم الأطفال، فلابد من القسوة، وفي ذلك يذكر محمد مهدي الجواهري الشاعر العراقي الكبير ( 1900 – 1997 ): إن الشيخ الذي درس عليه ويسميه جناب عالي، كان يجمع بين المهابة والجمال الممزوجين بالقسوة وكان يمتلك صندوقاً مليئا بالعقارب يلازمه دائما، ولا يتورع عن فتحه وتهديد الأطفال به. ولذلك بات الشاعر مسكونا بالهواجس. إعتاد أن يفيق في الليل على طرفه مذعوراً من العقارب.
وقابلنا في حياتنا التعليمية الكثير من أمثال هذا المعلم، فعندما كنتُ في مدرسة العطارين الإعدادية أن أرسلني مدرس مادة من المواد – لا أذكرها الآن – مع قليل من التلاميذ إلى رئيس الدور وكان اسمه ” ميلاد ” وكان طويلا وعريضا مثل زكي رستم، شكا مدرسنا إليه سوء أفعالنا، فجعلنا رئيس الدور نمد أيادينا وضربنا بسيف مسطرة الرياضة الكبيرة على أصابعنا حتى أزرقت وانحبس الدم فيها لمدة طويلة.
وفي آخر حصة لنا عندما كنت في أولى إعدادي، أن طلب بعض تلاميذ الفصل من مدرس لغة عربية إسمه مختار أن يحدثهم عن أفضل طريقة لقضاء إجازة آخر العام، ومختار هذا كان يميل للإمتلاء، وذو وجه أبيض ويشرد كثيرا وهو جالس أمامنا، وينحني رافعا جوربه عن أسفل ساقه ليهرش، وكان طيباً، لكنني قلت: ” هذه حصة الإجازة ” قلتها كثيرا، وربما كان صوتي غليظا، فقلدني بأن غلّظ صوته ساخرا من قولي هذا مما جعل تلاميذ الفصل يضحكون، وشعرت بالحرج فلم أقل شيئا بعد ذلك. ومازلت أذكرها رغم مرور سنوات كثيرة جدا عليها.
وهناك الكثير من مدرسي التعليم الابتدائي قسوا على بعض تلاميذهم وكانوا سببا في ضياع مستقبلهم، والأمثلة على ذلك كثيرة.
ومهنة التدريس مهنة قاسية، لا أدري كيف يتحملها أصحابها، فقد كنتُ أعاني من التدريس لأبنائي عندما كانوا صغارا، وفي هذا يقول الشاعر إبراهيم طوقان:
شوقي يقول – ومــا درى بمصــيبتي – قــــــم للمعــلم وفه التبجيــــــلا
أقعـد فديتــك هل يكـــــون مبجــــلا من كان للنشء الصغار خليــلا
ويـــكاد يفلــقني الأمــــير بقــــوله كاد المعلم أن يكون رســـــــولا
لو جرب التدريس شوقــي ســاعة لقضى الحياة شقاوة وخمـــولا
حســب المــعــلم غــمـة وكآبــــــة مرأى الدفــاتر بكرة وأصيــــلا
مائة عــلى مائة إذا هي صـــلحت وجد العمى نحو العيون سبيــلا
ولو أن في التصليح نفــعا يرتجى وأبيك لم أك بالعيون بخيــــــلا
لكــن أصــلـــح غلطـــة نحـــــوية مثلا وأتخذ الكتاب دليـــــــــــلا
مســتـــشـهدا بالــغــر مــن آيــاته أو بالحديث مفصلا تفصيـــــــلا
وأغوص في الشعر القديم فانتقي ما ليس ملتبسا ولا مبــــــــذولا
وأكــاد أبعث سيبويه من البــــلى وذويه من أهـــل القرون الأولى
فأرى حــمـــارا بــعـــد ذلـك كلــه رفع المضــاف إليه والمفعـــولا
لا تعجبوا إذا صحت يوما صيحة ووقعت ما بين البنــوك قتيـــــلا
يـا مــن يريــد الانتحـــار وجدته إن المعــــــــلم لا يعــــيش طويلا
ويقولون إنه في أميركا والبلاد الأوربية راتب معلم الأطفال أكبر من راتب أستاذ الجامعة، لأنه يبذل جهدا أكبر، وعمله أكثر أهمية، فلو كان التعليم الابتدائي صحيحا لقلت بشكل كبير مشكلة الأمية في مصر.
وقد كانت حياة المعلمين منذ سنوات طويلة؛ حياة بائسة صعبة، لكن ظهور الدروس الخصوصية غير حياتهم، فقد نجح إبن زميل لنا في العمل وحصل على درجات تؤهله لدخول كلية الطب، لكن أباه الذي كان ماديا إلى حد بعيد قال له أمامي : المهم هو المال، والمدرس يحصل على دخل في هذه الأيام أكبر من الطبيب، فأنصحك بأن تلتحق بكلية التربية، لتصبح معلماً.
لكن إبنه خالف تعليمات والده وأصر على الإلتحاق بكلية الطب.
وشاهدتُ مُدرسة في مكتب بريد قريب من بيتي، جاءت لتسحب مبلغا من حسابها في دفتر التوفير، فقالت للموظفة: أنا كده في الصيف، كل يوم والتاني آجي أسحب، لأن مافيش دروس خصوصية، أيام المدارس آجي أحط فلوس كل شهر، وفي الصيف اسحبها.
أردت أن أقول لها: ما هو ده من دم الغلابة أولياء الأمور .

اظهر المزيد

allewaaelaraby

جريدة سياسية اجتماعية شاملة مستقلة تهتم بالشأن العربي

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى