Jannah Theme License is not validated, Go to the theme options page to validate the license, You need a single license for each domain name.
مقالات

اللغة والسلطة وتحليل الخطاب

جولة في أفكار نورمان فيركلف

بقلم د. سحر سامي (عضو الجمعية الفلسفية بمصر)

       تؤدي اللغة دوراً كبيراً في سبيل الحفاظ علي علاقات السلطة قديماً وحديثاً, وتعيد هذه الإشكالية طرح نفسها بوضوح في المجتمع المعاصر, فالعلاقة بين اللغة والسلطة تطرح نفسها باعتبارها مسألة ملحة طوال الوقت رغم التغيرات الاجتماعية الكثيرة المتتابعة علي مستوي العالم, وتطور المناهج النقدية الخاصة باللغة ووجود الانترنت الذي أدي إلي استحداث أنماط جديدة للتواصل بما يمكن أن يؤدي إلي تغيرات شاملة في نظام الخطاب المجتمعي, بل إن هذه التغيرات بدأت بالفعل, واتخذت شكل الظاهرة في محيط الحياة الاجتماعية والثقافية وطبيعة اللغة وأنماط الكتابة.

      وهنا تبرز أهمية وجود أعمال وكتابات في مجال الوعي النقدي باللغة في علاقتها بالعلوم الاجتماعية والإنسانية, كعلم الاجتماع والدراسات الثقافية وغيرها, ولعل من أهم الكتابات في هذا المجال كتاب “اللغة والسلطة” لنورمان فيركِلَف, الذي يدرس اللغة من جهة, كما يتضمن النظر إلي التحليل النقدي للخطاب باعتباره من الموارد التي يُعتمد عليها في الصراعات الاجتماعية والسياسية من جهة أخري. مؤكداً أن الأهداف الأساسية من ذلك هي “المساعدة في تصحيح ظاهرة التقليل من أهمية الدور الذي تضطلع به اللغة في إنشاء علاقات السلطة الاجتماعية والحفاظ عليها, والمساعدة علي زيادة الوعي بالأسلوب الذي تسهم به اللغة في تمكين بعض الناس من السيطرة علي البعض الآخر, لأن الوعي يمثل الخطوة الأولي علي طريق التحرر.” إضافة إلي التأكيد علي علم اللغة الاجتماعي وضرورة دراسة اللغات في سياقاتها الاجتماعية, انطلاقاً من أن ممارسة السلطة في المجتمع الحديث, اعتمدت علي الأيديولوجيا, وتحديداً علي الجوانب الأيديولوجية الفعالة للغة _ وفقاً لكبار المنظرين مثل بيير بورديو, وميشيل فوكو, وهابرماس_ ومن هنا تأتي ضرورة أن تكون الطبيعة الأيديولوجية للغة من بين الموضوعات الأساسية للعلوم الاجتماعية الحديثة.

     كما يؤكد نورمان فيركلف علي هدف آخر لهذا الاتجاه البحثي قد يكون هو الاهدف الأكثر أهمية والذي يتمثل علي حد قوله في “الرفع العام لمستوي الوعي بالعلاقات الاجتماعية القائمة علي الاستغلال من خلال التركيز علي اللغة” ومن ثم تكمن أهمية تحليل أوجه التفاعل الاجتماعي مع التركيز علي العناصر اللغوية والعوامل التي تتحكم بها.

       ويحدد المداخل التي يتخذها لمنهجه وهي علم اللغة وعلم اللغة الاجتماعي والتداولية وعلم النفس المعرفي والذكاء الاصطناعي والمحادثة وتحليل الخطاب, كما يتطرق لآراء مختلفة في اللغة وفق النظرية الاجتماعية الحديثة موضحاً أن مصطلح علم اللغة أو اللغويات يشير أحياناً إلي جميع فروع دراسة اللغة بينما يشير في أحيان أخري إلي علم اللغة الحقيقي المعتاد الذي يدرس النحو والصوتيات والصرف والتراكيب اللغوية والجوانب الشكلية للمعني (أي علم الدلالة) ومن ثم يهتم بدراسة اللغة وليس الكلام, أما علم اللغة الاجتماعي فقد نشأ تحت تأثير الانثربولوجيا وعلم الاجتماع, ويدرس الممارسة اللغوية المتغيرة, كما يري البعض أنه يتطرق لبعض “جوانب التوافق المنتظمة بين الاختلافات في الشكل اللغوي, وبين المتغيرات الاجتماعية, مثل الطبقات التي ينتمي إليها المتحدثون, والعلاقات الاجتماعية بين المشاركين في ضروب التفاعل اللغوي والاختلافات في الأطر والمناسبات الاجتماعية, والاختلافات بين الموضوعات المطروحة” كما يشير إلي “التداولية” ويميز بين المفهوم الأوربي الواسع النطاق لها باعتبارها علم استخدام اللغة, وبين التصور الأنجلوأمريكي الذي يعتبرها مجرد مبحث فرعي بين عدة مباحث تتناول استعمال اللغة مثل علم الاجتماع وعلم اللغة النفسي, التي ترتبط وثيقاً بالفلسفة التحليلية, وتعتبرأن “اللغة شكلاً من أشكال الفعل, وأن الخطاب ممارسة اجتماعية. كما يؤكد علي أن كون التداولية مستوي إضافياً من مستويات اللغة تتيح المساحة اللازمة في اعتماد اللغة والسياق الاجتماعي علي بعضهما البعض.” ويري أنها تهتم بضروب وصور التفاوت التي تنشأ دائماً بين ما يقوله المرء وما يعنيه, والأسلوب الذي يستعمله الناس لإدراك المعني الكامن في الكلام المنطوق أو المكتوب, حيث يتولي البحث في عمليات الفهم وإنتاج النصوص الباحثون في علم النفس المعرفي والذكاء الاصطناعي, بينما تكون نتائج البحث في عملية الفهم من منظور الدراسة النقدية للغة, إذ يحدث الفهم نتيجة للتفاعل بين المنطوق أو المكتوب المراد تفسيره وبين مايختزن ذهن المتلقي والقارئ أو الناقد من معارف وخبرات وخلفيته الذاتية التي يطلق “فيركِلَف”: موارد الأعضاء, ويعتبر الاهتمام بعمليات الإنتاج وآليات الفهم عاملاً جوهرياً لتفهم العلاقات المتداخلة بين اللغة والسلطة والأيديولوجيا, لأن موارد الأعضاء أو مخزونات الذهن يتحكم فيها المجتمع وتشكّلها الأيديولوجيا, ولجوء المرء إليها عادة يعتبر آلية قوية للإبقاء علي علاقات السلطة.

       كما يتحدث عن تحليل الخطاب باعتباره مبحثاً بينياً يسهم في عدد من الدراسات الراسخة كعلم اللغة و علم الاجتماع و علم النفس المعرفي و غيرها , و يتضمن كذلك الدراسة النقدية للغة. و يستعرض النظرية الاجتماعية الحديثة و مساهماتها في ثلاثة محاور أساسية هي :  أولاً : العمل في مجال نظرية الأيديولوجيا باعتبارها آلية من آليات السلطة في المجتمع الحديث, في مقابل ممارسة السلطة بالأساليب القسرية و كون اللغة هي المركز الرئيس للأيديولوجيا. و ثانياً : العمل الذي قام به ميشيل فوكو اللذي ينسب إلى الخطاب دوراً مهماً في نشأة أشكال السلطة الحديثة و تتطورها. و ثالثاً : العمل الذي قام به يورجان هابرماس في نظرية الفعل التواصلي التي تؤكد على الأسلوب الذي تستطيع به أن تبشر بطرائق تواصل بريئة من أمثال هذه القيود.

          ويطرح نورمان فيركلف مجموعة من الموضوعات المهمة بامتداد فصول كتابه “اللغة و السلطة” فيستعرض في أحد الفصول “الخطاب باعتباره ممارسة اجتماعية” و يقدم فيه صورة عامة لموقع اللغة في المجتمع. و يستعرض منظور دي سوسير الذي يعتبر اللغة ” نظاماً أو شفرة تسبق الاستخدام الفعلي للغة ,وهي موحدة بين جميع أفراد الجماعة اللغوية وتمثل الجانب الاجتماعي للغة في مقابل الكلام الذي تتحكم فيه الخيارات الفردية فقط و ليس المجتمع ,ويقارن ذلك مع ما وصل إليه علم اللغة الاجتماعي من أن هذا التنوع في مفهوم الكلام ليس نتيجة الخيارات الفردية, بقدر ما هو نتيجة لمظاهر الاختلاف الاجتماعي بمعنى أن “اللغة تتنوع طبقاً للهويات الاجتماعية للأشخاص أثناء تفاعلهم مع بعضهم البعض و لأغراضهم التي يحددها المجتمع, و أطرهم الاجتماعية.” و بالتالي فاختياره لمصطلح الخطاب ينم عن التزامه بالرأي القائل ” إن استخدام اللغة يتحكم فيه المجتمع” حيث العلاقة بين اللغة و المجتمع هي علاقة داخلية و جدلية, فهي جزء من المجتمع و الظواهر اللغوية هي ظواهر اجتماعية فعلاً. كما أن الظواهر الاجتماعية هي ظواهر لغوية إلى حد ما.

          فالنشاط اللغوي يمثل جزءاً من العمليات و الممارسات الاجتماعية, فعلى سبيل المثال: المنازعات حول معنى بعض العبارات السياسية يعد من الجوانب الثابتة المألوفة في السياسة, فالناس يتجادلون حول معاني بعض الألفاظ مثل: الديموقراطية أو الإمبريالية أو التحرر أو … إلخ , و بالتالي يتمثل جانب من السياسة في المنازعات أو الصراعات التي تحدث داخل اللغة وحولها.

       ويرى أن الجوانب الاجتماعية تتحكم في الخطاب أيضاً و هذه الجوانب تنتظم في مجموعات أطلق عليها فوكو “نظم الخطاب” التي تجسد أيديولوجيات معينة. ويتأكد الطابع الجتماعي للخطاب والممارسة من خلال : الدلالة على أن الحالة الفردية دائماً ما تضمر أعرافاً اجتماعية.

      ولفهم هذه العلاقة بين اللغة و الخطاب و السلطة و الأيديولوجية يتحدث عن السلطة الاقتصادية و سلطة الدول التي ترى مصالحها مرتبطة بالرأسمالية و طرق الهيمنة  التي تعتبر الأيديولوجية من آالياتها للحكم عن طريق الاقتناع من الشعوب بدلاً من العنف و إرغام الناس على الإنصياع.كما يستعرض علاقات السلطة المتعددة في إطار العلاقات الطبقية بين الفئات الاجتماعية في المؤسسات وبين النساء و الرجال, وبين الطوائف العرقية, وبين صغار السن والكبار, و غيرها والتي تحدد طبيعة المجتمع. و”اللغة تمثل موقعاً للصراع الطبقي و عاملاً يسهم فيه, ولابد للذين يمارسون السلطة من خلال اللغة أن يشتبكوا في صراعٍ دائم مع غيرهم للدفاع عن موقفهم”, فمثلاً الجرعات الثابتة التي يتلقاها الناس يومياً تعتبر عاملاً مهماً من عوامل السيطرة, كذلك الإعلانات و التعليم و البيروقراطية الحكومية. و إلى جانب خضوع الخطاب لسيطرة الأبنية الاجتماعية, فإنه بدوره يؤثر فيها و يسهم في تحقيق الاستقرار أو التغيير الاجتماعي.

      ويرى أن أنماط الخطاب تتفاوت وتختلف من ثقافة إلى أخرى. كما يتحدث عن الإعلام كوسيط بين أصحاب السلطة و الجماهير و نفوذ الإعلام  وسلطته في مجال إعادة الإنتاج الاجتماعي و يضرب مثلاً لذلك بهيئة الإذاعة البريطانية أثناء إضراب عام 1926 في بريطانيا عندما كانت تؤيد الحكومة من خلال خطاب إعلامي غير مباشر لتأكيد أفكار معينة, عبر استخدام أساليب لغوية ونحوية تحقق الرسالة المنشودة.

        كما يسعي نورمان فيركلف في كتاب آخر له هو ” الخطاب والتغير الاجتماعي” إلي بناء منهج للتحليل اللغوي يمكنه الإسهام في دراسة جوانب التغير الاجتماعي, وارتباط اللغة بعوامل وأبعاد التغيير الاجتماعية والثقافية, ويعتمد علي الدراسات السوسيولوجية والفكر السياسي ودراسة فروع علم اللغة والدلالة والنحو والتداولية وتحليل الخطاب , وللوصول لهذا المنهج يستعرض مفهوم الخطاب وعلاقته بالنصوص المكتوبة والمنطوقة وأليات المعرفة عند ميشيل فوكو كمرجعية لتحليل الخطاب ولربطه بين الخطاب والمجتمع والعلوم الإنسانية المختلفة, كما يستعرض الخطاب والنص واللغة عند ميخائيل باحتين وعلاقة الخطاب بالابداع الأدبي, ويخصص فصلا كاملاً للتناص ودوره في تحليل الخطاب, حيث تتشكل النصوص في فضاء كبير, ويستقي كل نص من النصوص الأخري في السياق اللغوي مزيحاً لها ومحققاً وجوده في البناء اللغوي العام, بما يسهم في إنتاج خطابات جديدة أو الإضافة لخطاب معين, ويشير بالطبع في دراسته للتناص لأعمال جوليا كريستفا ورؤاها في تعريف النص وتحليل النصوص الأدبية, مستعرضاً أنماط مختلفة من الخطابات في الحياة اليومية في مجالات متنوعة كالتعليم أو المجالات الطبية أو الأمومة وغيرها, محللاً هذه الخطابات كنماذج لطبيعة العلاقات الاجتماعية, موضحاً ملامح اللغة وبناء الجمل والأفعال المستخدمة بها وطريقة الصياغة. وبذلك يكون تحليل الخطاب لدي فيركلف عملاً بينياً مشتركاً بين عدة تخصصات علمية, يرتبط بإنتاج النصوص وبالعمليات الاجتماعية وعلاقات السلطة ومشروعات الهيمنة علي المستوي المجتمعي, وتتفاعل مع علم النفس والتاريخ والعلوم السياسية.

     وبذلك أي بالحرص علي تحليل الخطاب ودراسة اللغة في ضوء هذا المنهج يتمكن الفرد من إدراك الواقع المحيط به, وفهم ما وراء اللغة وتكوين رؤية قوية واضحة لذاته في علاقته بالكون والمجتمع, والهدف من كل ما يوجه إليه من خطابات ويصله عبر الإعلام أو وسائل المعرفة, وحركة التاريخ ووالدور المنوط به إزاء كل ذلك.

اظهر المزيد

allewaaelaraby

جريدة سياسية اجتماعية شاملة مستقلة تهتم بالشأن العربي

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى