الكاتب الصحفي صلاح سالم يكتب …..

عن ناصر.. ونصر الله
تأكد رحيل السيد حسن نصر الله يوم 28 سبتمبر الماضى، وهو اليوم نفسه من أيام الخريف الذى شهد رحيل الرئيس جمال عبدالناصر قبل أربعة وخمسين عاما. رحل كلاهما فى مطلع فصل الخريف، مخلفا وراءه خريفا سياسيا عاشه كل عربى يؤمن بعروبته بعد ناصر، وكل مؤمن بنهج المقاومة المسلحة بعد نصر الله. اختلفت جل ملابسات النشأة والحياة العملية بين الرجلين. فالأول ضابط مصرى سنى، من أسيوط بصعيد مصر، يحمل صلابة أهل الجنوب وحزمهم. قام بتحرك عسكرى شجاع فى يوليو 1952، مستهدفا الاحتلال البريطانى، والنظام الملكى المتهالك، والإقطاع المهيمن على المجتمع المصري. لكن هذا التحرك العسكرى سرعان ما تحول إلى ثورة بفعل ما أحدثه من تغييرات عميقة فى بنية المجتمع المصرى، خصوصا فى العلاقة بين طبقاته من قاع الريف البائس إلى قلب العاصمة المتمدن، وكذلك فى شتى مكونات النظام السياسى وصولا إلى العلم والنشيد الوطني. كما شرع فى تأسيس جيش وطنى حديث، وأمم قناة السويس وبدأ مشروعا تحديثيا، ولو سلطويا، امتزج بميول يسارية تقدمية أكسبته شعبية طاغية بين الفقراء والمقهورين فى مصر، لكنه أزعج أعداء مصر، وعلى رأسهم إسرائيل التى اعتبرت المشروع خطرا وجوديا عليها فحرضت عليه الغرب، وشاركت فى العدوان الثلاثى ضده، ولم تتوقف أبدا عن محاولات اغتيال صاحبه. أما الثانى فرجل دين شيعى من قرية فقيرة بقضاء صور فى الجنوب اللبنانى، تعلم فى الحوذات الدينية بإيران والعراق، وانضم إلى حركة أمل الشيعية التى دشنت المقاومة اللبنانية للاحتلال الإسرائيلى فى نهاية السبعينيات، لكنه انشق عليها وانضم إلى حزب الله كشريك مؤسس عقب الاجتياح الإسرائيلى لبيروت 1982، قبل أن يصير قائدا له بعد اغتيال رفيقه عباس الموسوي. قاد الرجل الحزب والمقاومة بشجاعة فائقة اضطرت العدو الصهيونى إلى الانسحاب من الجنوب اللبنانى عام 2000م. استمرت المقاومة تزود عن سيادة البلاد وتسعى إلى تحرير مزارع شبعا، ما أدخل الحزب وقائده فى مناوشات اضطرته إلى بذل تضحيات مشهودة، خصوصا فى حرب 2006 التى حقق فيها الحزب نصرا معنويا وسياسيا بعد أن كبد العدو خسائر بشرية جسيمة، شكلت له نوعا من العقدة النفسية.
كان ناصر رئيسا لدولة وطنية هى الأعرق فى التاريخ الإنسانى، تمتد جغرافيا فيما يزيد قليلا على المليون كم مربع، وتستحوذ على ربع الكتلة السكانية للعالم العربى، وحتى نهاية الستينيات كانت تمتلك نصف قدرته الاقتصادية، وثلثى موارده الثقافية، وثلاثة أرباع قدراته العسكرية. ومن على رأسها وقف الرجل واثقا وشامخا، ليقود اتجاها قوميا استقلاليا جعل منه قائدا لحركة التحرر العربى، وملهما لحركة التحرر العالمى، خصوصا فى إفريقيا وأمريكا الجنوبية، حتى صار مجرد لقائه حلما يراود رموزها خصوصا الأيقونتين نيلسون مانديلا وتشى جيفارا. أما نصر الله فكان مجرد قائد للفصيل الرئيسى فى الطائفة الشيعية، التى لا تشكل بدورها نحو ثلث اللبنانيين الذين يراوح عددهم الكلى حول خمسة ملايين نسمة، ولا تزيد رقعتهم الجغرافية على عشرة آلاف كم مربع. لم يمتلك الشيخ سلطة دستورية ولا منصبا رسميا، وإن توافرت له مهارات كاريزمية مكنته من قيادة مشروع المقاومة ضد العدو الصهيونى، باسم مذهب استشهادى ملهم لمريديه، يتجذر فى مفهوم الجهاد الدينى التقليدى الذى يُلهم ويُحفِّز فقط المنتسبين إليه، وإن افتقد إلى الجاذبية التاريخية، ومن ثم إلى الإجماع الإنسانى حوله.
جاء رحيل ناصر كنتيجة غير مباشرة لهزيمة يونيو العسكرية فى 1967، التى جعلت مشروعه القومى يترنح، وصحته الجسدية تتهاوى أمام الضغوط النفسية، حتى قضى نحبه بعد ثلاث سنوات قضاها فى إعادة بناء الجيش وإعداده لمعركة التحرير، وبعد أسبوع شاق قضاه فى علاج أحداث أيلول الأسود، والتى عقد لأجلها قمة عربية بالقاهرة، استهلكت ما بقى من حيويته الجسدية والنفسية. أما نصر الله فرحل فى نهاية عام كامل من حرب محدودة خاضها الرجل إسنادا للمقاومة الفلسطينية فى غزة. وقد اغتالته إسرائيل هو يترأس اجتماعا لقادة الحزب فى حارة حريك، مكان يفترض أنه آمن فى الضاحية الجنوبية لبيروت، ما يشى بخيانة ما حققت له أمل الاستشهاد.
لكن، ورغم الاختلافات العديدة، فقد جمع بين الرجلين أمران أساسيان. الأول إيجابى وهو القدرة على بث الأمل ونفخ الروح فى عروق الأمة المنكوبة أو الكسيرة، فصار كلاهما رمزا للثقة فى الذات القومية، وكذلك للقدرة على التحرك خارج نطاق الهيمنة الغربية والإملاءات الإسرائيلية. أما الثانى فسلبى وهو غرور القوة الذى دفع كليهما إلى التورط فى صراعات جانبية، بعيدا عن الصراع الرئيسي. وقع ناصر فى شرك الصراع الأهلى فى اليمن دون ضرورة ملحة، ووقع نصر الله فى شرك الحرب الأهلية ذات النفس الطائفى المقيت فى سوريا دون مغزى أخلاقي. استنزف ذلك التورط ليس فقط طاقتهما العسكرية والسياسية، بل أيضا حجم الإجماع على شرعية قيادتهما، فكان سببا رئيسيا فى هزيمة مصر العسكرية فى يونيو 1967، وفى الاختراق الأمنى لحزب الله، واغتيال جل قياداته فى 2024. رحل عبدالناصر مهزوما بسلطويته، مصحوبا بدموع الجماهير الغفيرة فى مصر، وبحزن أحرار العرب والعالم الذين استلهموا منه الأمل واستمدوا العزم، وقد عبرت جنازته، ربما الأكبر فى التاريخ، عن حجم الدور الذى لعبه فى تحولات القرن العشرين. أما نصر الله فرحل مصحوبا بدموع أشياعه ومريديه، وبحزن الذين ألهمهم وحفزهم وإن حرم، حتى الآن، من الوداع الذى يستحقه، بفعل الملابسات الضاغطة على حزبه وبلده والأمة كلها.






