الشيخ عياد.. جسر ثقافى بين مصر وروسيا «1-3»

بقلم :: د. على الدين هلال
تأخرت فى إعداد هذه المقالات عن الشيخ محمد عياد الطنطاوى نحو عام بأسره، فقد كنت قد بدأت فى الإعداد لها فى سبتمبر 2023 فى إطار الاحتفالات بمرور ثمانين عاما على إقامة العلاقات الدبلوماسية بين القاهرة وموسكو فى 1943، ولكن أحداث طوفان الأقصى وما تبعها من تطورات دامية حالت دون ذلك. تعود أهمية الكتابة عن هذا الشيخ إلى عدم تقدير الرأى العام لدوره فى تدريس اللغة العربية وآدابها على مدى خمسة عشر عاما فى روسيا، ولدوره أيضا فى تعليم عدد كبير من المستشرقين الروس والأوروبيين. ولفترة طويلة، اعتمد الباحثون فى سيرة الشيخ وأعماله على الدراسة الرائدة للأستاذ أحمد تيمور والمنشورة فى مجلة المجمع العلمى العربى فى دمشق عام 1924، وتعليق المستشرق الروسى اجناطيوس كراتش كوفسكى عليها فى نفس المجلة وفى ذات العام.تغير الوضع عندما اكتشف هذا المستشرق مخطوطة كتبها الطنطاوى عن رحلته وإقامته فى روسيا، فأعقبها صدور عديد من البحوث والدراسات عن حياة الشيخ وأعماله التى يجد القارئ فيها اختلافات فى عرض عدد من الوقائع.
وبغض النظر عن هذه الاختلافات، فإن رجلنا هو الشيخ محمد عياد بن سعد بن سليمان عياد الشافعى المرحومى الطنطاوي، ولد فى قرية نجريد بالقرب من مدينة طنطا بمديرية الغربية (الأرجح أنها قرية نجريج التابعة لمركز بسيون الآن) فى عام 1810، وكان والده تاجرا للأقمشة والبن والصابون. حفظ الطفل القرآن الكريم فى الكتاب، ثم قصد طنطا لاستكمال تعليمه، فدرس شرح ابن قاسم فى الفقه على يد الشيخ محمد الكومى عام 1820، واستكمل دراسته لنفس الشرح، وشرح الخطيب مع الشيخ محمد أبى النجا في1822. وفى القاهرة، درس على يد كبار شيوخ الأزهر منهم الشيخ المجدد حسن العطار، والشيخ إبراهيم الباجوري، ودرس معهما تفسير البيضاوي، وعلوم النحو والفقه والبلاغة والمنطق والكلام. تم إجازة الشيخ، فقام بتعليم موضوعات النحو والصرف والآداب والمعلقات فى الأزهر، وتتلمذ على يديه كثير من الطلاب الذين كان لهم تأثيرهم الفكرى فى بلادهم خاصة فى حلب (سوريا) ومعان (الأردن).
والى جانب عمله بالأزهر، قام الشيخ بتدريس اللغة والأدب للمستشرقين الذين قدموا إلى مصر فى هذه الفترة من فرنسا وألمانيا وروسيا، وللأجانب الذين رغبوا فى تعلم اللغة العربية فعلمهم إياها، وتعلم منهم قواعد لغات بلادهم، ومناهج البحث الحديثة التى كانت معروفة فى بلادهم. فى هذه الفترة، تعرف الشيخ على كبار المثقفين المصريين، وكان منهم رفاعة رافع الطهطاوي.
فى نهاية ثلاثينيات القرن التاسع عشر، كانت مدرسة الألسن الشرقية فى مدينة سان بطرسبرج الروسية تبحث عن مدرس للغة العربية، فطلبت وزارة الخارجية من القنصل الروسى فى الإسكندرية الدوق مديم اختيار الشخص المناسب لهذه المهمة، فوقع اختياره على الشيخ الطنطاوى. وطلب من والى مصر محمد على الموافقة على سفره. كان الوالى فى هذا الوقت، مهتما بنقل العلوم والمعارف الأوروبية المتقدمة إلى مصر، فوافق على الطلب، واستدعى الشيخ إلى ديوانه، وطلب منه تعلم «اللسان الروسي» وإجادته، ووعده بمكرمة عندما ينفذ ذلك، وأصدر مرسوما بسفره.
سافر الشيخ يوم السبت 26 مارس 1840،على متن باخرة نمساوية من الإسكندرية إلى إسطنبول، وفيها التقى السفير الروسى والمترجم موخين الذى كان أحد طلبة الشيخ فى القاهرة، وكانت مهمته مرافقة الطنطاوى إلى مكان عمله ومساعدته فى تعلم اللغة الروسية. استقل الاثنان باخرة روسية من إسطنبول الى اوديسا، ومنها ركبا عربة تجرها الخيول، حتى وصولهما إلى سان بطرسبرج فى 30 يونيو من نفس العام. كانت أولى محاضرات الطنطاوى بالمدرسة الشرقية. ونظرا لعدم إجادته فى البداية للغة الروسية، تواصل مع طلبته باستخدام خليط من الكلمات العربية والفرنسية والألمانية والروسية. وسرعان ما أجاد الروسية،وألقى محاضراته بها، فأبهر طلابه ومستمعيه بسعة علمه وعمق ثقافته. ارتفعت مكانة الشيخ الفكرية وبرز تفوقه فى مجال تخصصه، فقامت جامعة سان بطرسبرج بتعيينه بدرجة «الأستاذية» فى أكتوبر عام 1847. فى عام 1844، قضى الشيخ إجازته فى مصر. عاد بعدها إلى روسيا، مصطحبا زوجته السيدة علوية وابنه احمد، ولا يوجد ما يشير إلى أنه زار مصر مرة أخرى، وان كان قد حافظ على مراسلة عدد من أصدقائه فيها. درس الشيخ فى الجامعة قواعد اللغة العربية والترجمة من الروسية إلى العربية، والخط العربى والتاريخ العربي، ووضع عديدا من الكتب والمؤلفات التعليمية لطلابه. وكان له أسلوب محبب فى التدريس، فيعرض لموضوعه من الناحية النظرية، ثم يوضحه بالأمثلة العملية. سعى الشيخ لفهم المجتمع الروسى وثقافته وتقاليده، فقضى إجازاته متنقلا بين المدن الروسية، كما سافر إلى بلاد البلطيق وفنلندا، وأقام علاقات وثيقة مع كبار المستشرقين فى روسيا والدول الأوروبية.
ولذلك، حظى الشيخ فى أغسطس 1850 بشكر القيصر على التدريس فى الجامعة لطلبة القوقاز، وأهداه ولى العهد خاتما ثمينا مكافأة له على قيامه بكتابة عبارات وقصائد بخط يده باللغة العربية على جدران القاعة التركية فى أحد القصور القيصرية. أصيب الشيخ بنوع من الشلل فى عام 1855 منعه من أداء عمله، فأحالته الجامعة إلى التقاعد عام 1861، وتوفى فى 29 أكتوبر من نفس العام. وأقيمت على روحه صلاة الجنازة فى جامع المدينة ودفن فى مقابر التتار المسلمين بمدينة فولكوفا، وكتب على قبره باللغتين العربية والروسية «هنا مرقد الشيخ العالم محمد عياد الطنطاوى الذى كان مدرسا للغة العربية فى المدرسة الكبيرة الإمبراطورية ببطرسبرج المحروسة، وتوفى فى شهر جمادى الآخرة عام 1278 هجرية عن خمسين سنة».
.. وللحديث بقية الأسبوع المقبل..إن شاء الله






