
الأديب السكندرى مصطفي نصر يكتب :
تقدمت للعمل في شركات كثيرة في الإسكندرية. ولم يقبلوني لأنني لا أمتلك واسطة. وأنا من الجيل الأول الذي تعلم تعليما نظاميا في عائلتنا، فأهالينا سعدوا لأننا نتعلم، فحرصوا على ألا يلحقونا بأي أعمال طوال فترة دراستنا. وهذا يضايقني، فلو سمحوا لي بالعمل حتى في إجازة المدارس، كنت إستفدت كثيرا، على الأقل، كنت سأتفادى البدانة التي صاحبتني منذ صغري.
من حسن حظي أن شركة الورق عينت مجموعة كبيرة من الموظفين دفعة واحدة، وطلب رئيس مجلس الإدارة من رؤساء الأقسام الذين سيمتحنونا، أن يسألونا: عندك نشاط ثقافي أو رياضي؟
فقلت: أنا باكتب قصة.
فكتبوا هذا أمام إسمي. ثم أرسلوا لي لمقابلة رئيس مجلس الإدارة والمديرين الكبار الذين يعملون معه. فسألني رئيس الشركة: بتكتب أكثر، أم بتقرأ أكثر؟
فضحكت قائلا: طبعا باقرأ أكثر.
سألني عن الكتب التي قرأتها، فقلت لنفسي: لقد إمتحنت في شركات كثيرة دون جدوى، فلا بأس من هذا اللقاء، على الأقل هم يحدثونك في موضوع تحبه وتفضله.
أطالوا في الحديث معي، مما أدى لإندهاش أعضاء اللجنة المنتظرين في الخارج.
وكنت الأول على الدفعة، وعملت في الحسابات – أهم مكان مناسب لمؤهلي.
قال مدير كبير في الشركة: أتحدى لو واحد أتعين بلا واسطة في الفترة الأحيرة.
فقلت له: أنا إتعينت من غير واسطة.
00
إشتهرت شركتنا – على مستوى مصر كلها – بصناعة أكياس الورق- لم تكن أكياس البلاستيك قد إشتهرت وسادت كما هي الآن- لدينا عنابر لصناعة الأكياس، ويا سعده وهناه من يحصل على كمية أكبر من أكياس الورق. وتعين عبد الحميد بريقع في إدارة المبيعات، هو الذي يصرف حصص الورق المقررة لكل تاجر أو شركة. هو موظف صغير، حاصل على دبلوم تجارة، لكنه ناجح في عمله، له رئيس مبيعات ومدير مبيعات، لكنه هو الكل في الكل.
يكسب عبد الحميد بريقع كثيرا من عمله هذا، يأتي عادة متأخرا، فلديه أسبابه، رئيس الشركة ورئيس القطاع التجاري – التابعة له إدارة المبيعات – التي يعمل بها، وباقي رؤساءه بعرفون أن عمله يستوجب أن يأتي متأخرا عن موعد الشركة المعتاد. ودائما يأتي بتاكسي، ويرتدي بذل أنيقة، ويهدي الكل زجاجات عطر فاخرة، وكرافتات، وقطع حشيش، كل شيء تجده عنده.
وغضب عليه رئيس الشركة فجأة، فنقله لإدارة التكاليف، حيث لن يقابل فيها سوى موظفي الشركة. فضاعت منه المبالغ الطائلة التي كان يحصل عليها من العملاء، نظير أن يزيد من حصص الورق المنصرفة لهم.
مكتبه في إدارة التكاليف. كان ملاصقا لمكتب صديقي شعبان، فكنت أذهب إليهما كثيرا، أتحدث معهما وأمازحهما، كان مازال لدي عبد الحميد بريقع أشياء غالية الثمن، يهديها لمن حوله.
تبددت أمواله الكثيرة التي كسبها أيام كان يعمل في المبيعات، وفوجئنا بخبر في الجرائد الثلاث – الأهرام والأخبار والجمهورية – بالقبض عليه وهو عائد من لبنان ومعه كمية ليست قليلة من الكوكايين . كان هذا وقت حرب أكتوبر 73، والبلاد في حالة قلق وطوارئ، فحكموا عليه بالأشغال الشاقة المؤبدة.
حدثني صديقي شعبان بعد سنوات كثيرة جدا، بأن عبد الحميد بريقع نقلوه لسجن الحضرة القريب جدا من بيت زميلي شعبان. فتحدث مع الجنود الذين يعملون في السجن، قال لهم: قولوله شعبان إللي كان معاك في التكاليف، بيسلم عليك.
قال الجنود لشعبان: قلنا له هذا، قال مش فاكره.
فأعطاهم شعبان صورته، فنظر فيها طويلا،وأعادها إليهم قائلا: عمري ما شفته.
فطلب شعبان من الجنود الذين يعرفونه جيدا، أن يسمحوا له بمقايلته. فسمحوا له بذلك.
فعندما حدثوا عبد الحميد بريقع بأمر الزيارة، قال لهم: قولوله يجيب معاه لب أسمر ولب أبيض.
فإشترى شعبان كميتين من اللب الأبيض واللب الأسمر، ودخل لمقابلته، فرح عبد الحميد بريقع جدا باللب. فقد كان يتمناه منذ سنوات طوال قضاها في السجن، لكنه لم يستطع أن يتذكر شعبان، فترة العمل الشاق في الجبل محت كل ما في ذاكرته.
هذه الحكاية ذكرتني بأشياء كثيرة، برنامج تلفزيوني قديم، للمذيعة نجوى إبراهيم، تنقل لحظة لقاء أم مع إبنها المسجون لسنوات طويلة، الإبن يبدو أكبر سنا من أمه، عندما ذكر سنه، إندهشنا، واضح أن المعاملة في السجن تمسح الذاكرة، وتجعل الفرد يشيخ قبل أوانه. فقد حكى المرحوم مصطفى محرم بإنه عندما شرع بكتابة سيناريو فيلم ليل وقضبان، طلب أن يزور السجون ليعرف ما الذي يحدث فيها، فتدخل عبد الخالق صالح – الممثل المعروف، وأخو ماجدة الصباحي، وكانا يعملان في حراسة السجون، قال مصطفى محرم بأن المتبع في السحون وقتها، إن لو مسجون يريد أن يتحدث مع السجان لأي سبب من الأسباب- أن يبلغ عيادة مثلا، أو يشكو لشيء ما – يعرف المسجون أن أول شيء سيحدث هو أن السجان سيصفع المسجون على وجهه في الأول ودون سبب، ثم يسمع إليه بعد ذلك.
00
كل ما يريده عبد الحميد بريقع في الحياة لب أسمر ولب أبيض. وهذا يذكرني بما كتبه ألفريد فرج عندما خرج من المعتقل فجأة، وزوجته وقتها ستكون في عملها، فجلس على القهوة وطلب قهوة سادة، طوال سنوات إعتقاله وهو نفسه في كوب قهوة سادة.
وزميلي في العمل الذي إعتقلوه مع الإخوان عام 1965، سألته لماذا إعتقلوك؟
قال لإنني وأنا صغير كنت في مدرسة إخوانية في بلادنا.
سألته: لماذا لم يقبضوا عليك في عام 1954- أيام كانوا يقبضون على الإخوان؟
قال: كنت صغيرا.
ما دام لم يفعل شيئا يضر البلاد منذ عام 1954حتى عام 1965، فلماذا قبضتم عليه؟
حكى لي بإنهم إضطروا لنقله لسجن فيه مستشفى فسارت به سيارة السجن في شوارع القاهرة، فشاهد من خلال النافذة الصغيرة المتاحه، عربات الجوافة والبلح، فإشتاق إليهما، فقال لي: منذ أن خرجت من المعتقل وأنا لا أشبع من الجوافة والبلح، أكلهما في كل وقت.
تذكرت بإنه كان يأتي للشركة بكميات كبيرة منهما، ويتناولهما أمامنا.
وأذكر الفنان العالمي عمر الشريف عندما عاش خارج مصر، فإشتاق لرؤية منادي السيارات، فالبلاد التي يعيش فيها ليس فيها مناديين سيارات. وبعض من ترك مصر وهاجر لأمريكا، يحن ويشتاق للخبز البلدي الساخن ورائحته.






