ضرورة النقد … وحفل افتتاح المتحف المصري الكبير

بقلم د. حسام عطا
يصبح النقد قادراً على استيعاب استقبال الجمهور الكبير تجاه الأعمال الفنية بمجرد أن يعود الناقد إلى مدرسة المتلقي.
وفي النقد المعاصر دراسات طورت مفهوم التلقي وهي دراسات يهتم معظمها بما يسمى بدراسات الاستقبال.
وحفل افتتاح المتحف المصري الكبير والذي تم نقله على الهواء مباشرة حول العالم، والذي حظي بمشاهدات كبرى لا نهائية من كل أنحاء الكرة الأرضية تناولت وتعددت أنواع الاستقبال له.
ويجدر التأكيد على أن قيمة المتحف ورمزيته وأهميته كعلامة على إرادة الدولة المصرية وإيمانها بقوتها الحضارية هو أمر لم يحدث خلافاً حوله، وهو محل إجماع العالم وجميع المصريين.
وهو أول متحف لحضارة متكاملة بهذا الحجم وهذا الثراء الحضاري في معماره الفذ، وطريقة العرض المتحفي التي تربط بين أحدث وسائل العرض المعاصرة وتضيف إليها ابتكارات جديدة.
أما المتحف فقد حظي بالإجماع، أما عرض الافتتاح فقد أثار جدلاً كبيراً داخل مصر ولذلك فالفصل بين المتحف وإطلاقه وبين ردود الأفعال عن عرض الافتتاح أمر ضروري لتناول ما جرى.
وقبل التفهم النقدي عبر دراسات الاستقبال لما جرى في عرض الافتتاح أود رصد أمرين في مسألة إطلاق المتحف نفسه بهياً رائعاً للعالم كله.
الأول: هو رد فعل بعض من شيوخ الوهابية المغلقة المصنوعة المزروعة زرعاً قسرياً في جسد وقلب الأمة الإسلامية بشأن التبرأ من فرعون وجنده وعدم زيارته إلا للاتعاظ من هلاكه.
وهي فتاوى تتجاهل موقف الإمام د. أحمد الطيب شيخ الجامع الأزهر الذي يحترم الحضارة المصرية القديمة ويبتهج ابتهاجاً كبيراً بهذا المتحف المصري الكبير.
والثاني: هو رد فعل أحد المتحدثين من ممثلي دولة الكيان الصهيوني في إشارته إلى أن اليهود هم بناة الأهرامات، وهي مزاعم واهية لا تستحق الرد عليها بالأساس ولا يصدقها أحد حول العالم لا من الجمهور العام ولا من علماء المصريات والمهتمين بها.
وبين دعوة التحريم والانتحال عوامل مشتركة تاريخية، إذ أن الانتحال لا يتأسس إلا بعد دفع أصحاب الحضارة لإنكارها وتكفيرها ومحاولة تدمير الهوية التاريخية للمصريين، في صلة مع تفكير ثالث تم العمل التراكمي عليه وهو الاعتراف من الغرب الحضاري بالحضارة المصرية القديمة في اتصالها بأصل العقل الأوروبي المعاصر الذي هو أصل الغرب الأمريكي والكندي والاسترالي ألا وهو العقل اليوناني القديم، مع إنكار تلك الحضارة لدى المصريين المحدثين، وفي ذلك هوة كبيرة يجب ردمها، بل وثقب أسود كبير ساهم افتتاح المتحف المصري الكبير في إبطال تأثيره في الداخل المصري وفي الغرب الأوروبي الحضاري التاريخي حول العالم.
وحسناً فعل هؤلاء المعبرون عن التكفير والانتحال بأن أعلنوا أصواتهم كي يتأكد العالم من جهالة طرحهم وتربصه، أما أصحاب نظرية المركزية الحضارية الأوروبية المصرية القديمة فقد لاذوا بالصمت، وصمتهم يأتي من عمق نظرتهم المعرفية للحضارة المصرية القديمة إذ أن جلال الحدث وعظمته لا يصلح معه إنكار الصلة القائمة بين الأحفاد المعاصرين والأجداد من قدماء المصريين، إلا أن التربص قائم ويجب الانتباه إليه وتفكيكه معرفياً داخل مراكز علم المصريات وعبر الوسائل الجماهيرية في علوم الاتصال حول العالم، بل وفي الداخل المصري أولاً وقبل أي جمهور مستهدف آخر.
إذن تصدي المتحف المصري الكبير لمشكلات كبرى مسكوت عنها ألا وهي التكفير والانتحال ومحاولة قطع الصلة بين المصريين القدماء والمحدثين، وهي المشكلات التي يجب مواجهتها بحزم بأحاديث وكتابات ودراسات وفنون عن الهوية المصرية وتاريخها التراكمي من مصر القديمة إلى عالمنا المعاصر.
أما عرض الافتتاح المبهر المعبر عن الاقتدار المصري الواضح لكل ذي عين فيمكننا مناقشته أيضاً وفقاً لدراسات الاستقبال الفنية.
وقبل الحديث عن التقييم النقدي لعرض الافتتاح يجدر بنا أولاً أن نشير لنجاح العرض بشكل كبير واضح لا يقبل الشك في إطلاق الرسائل التي أراد إطلاقها حول العالم، فقد حقق الرسالة السياسية بالحضور الكبير لرؤساء وملوك العالم من كل جهات الدنيا الأربع إذ يعزز الدور المحوري لمصر في السياسة الدولية ويجدد الاعتراف الدولي بأنها أيضاً قوة ثقافية كبرى، كما حقق الهدف السياحي بخلق رغبة كبرى حول العالم لزيارة مصر ورؤية حضارتها الملهمة.
أما الرسالة الحضارية ذات الصلة بالرسالة السياسية فهي كون مصر حضارة سلام تكتفي بذاتها لتشرق نوراً على العالم أجمع، ومع تلك القدرة على الإنجاز في البناء المعاصر والتاريخي والقديم كما جاء في صور عرض الافتتاح، تحضر مصر الكبرى التي تتطلع للبناء والتنمية لا الحرب والعدوان، وفي ذلك تعزيز لرمزية مصر الحضارية في قلب وعقل الغرب الحضاري القادر على التأثير في مسارات مخططات التآمر على الاستقرار السياسي في العالم العربي وجواره الإقليمي.
فمن قلب المنطقة المشتعلة حرباً ونزاعات عرقية وفصائلية وتقسيمات تستهدف تفتيت دولاً تاريخية، وحرب إبادة في الجوار لم تندمل جراحها الإنسانية بعد، تقدم مصر هديتها الحضارية للمصريين وللعالم كله ممثلة في المتحف المصري الكبير.
أما ما بقي إخضاعه لفحص وتأمل العقل النقدي وأثار جدلاً كبيراً، فهي طبيعة عرض الافتتاح واختياراته الفنية، وهي مسألة إن تأملها الاستقبال النقدي العلمي فهي دالة على حيوية الشعب المصري، وأنه أيضا محب لمصر جعل من يوم افتتاح المتحف عيداً شعبياً وتجمع لمشاهدة الاحتفال والعرض، بل وأقام تجمعات للمشاهدة الجماعية في كل أنحاء مصر وحول العالم.
وبعيداً عن التعليقات السلبية التي تصدر عن كراهية أو أحقاد تاريخية أو عداء مع مصر ونظامها السياسي يبقى السؤال: هل يمكن إدماج تلك التعليقات التي كانت تتمنى صوراً إبداعية مختلفة أو أكثر إبداعاً في إطار صحيح؟
فعندما يتم تنحية التلقي عبر الاستقطاب السياسي، والتلقي عبر السؤال الأناني عن الفائدة المباشرة لجماعات بعينها، وبعيداً عن هؤلاء الذين يرتبون أولويات مصر على ما يعتقدون، نجد أن مسألة نقد حفل افتتاح أدى مسألة إيجابية تعبر عن حساسية حية لدى الجمهور المصري.
خاصة أن مسألة إعادة إنتاج الهوية المصرية القديمة في حفل موكب المومياوات قد لاقت نجاحاً كبيراً وصنعت لدى المصريين ولعاً وترقباً في أفق التوقع والترقب للجمهور وهو مبحث هام في دراسات التلقي لمشاهدة وسماع ورؤية ما هو أعمق وأكثر جمالاً من كنوز الفنون المصرية الجميلة من آثار مصر القديمة اللامادية في الشعر والمسرح والموسيقى والرقص وغيرها من الفنون التعبيرية المصرية القديمة.
ولما خالف العرض هذا التوقع وجاء في صيغة فنية أخرى حدثت لدى الجمهور تلك الصدمة التي كسرت أفق التوقع والترقب.
ولعل سعادتي بهذا الرصد لأفق توقع وترقب الجمهور المصري وشوقه للفنون المصرية القديمة يبدو لي هو الاهتمام الذي يدفع للبهجة، إذ يمكننا حقاً الإقدام بكل ثقة على تقديم الفنون المصرية القديمة بشكل موسمي ومتاح للجمهور العام لأن أهل مصر يتوقون حقاً للتمتع بتلك الفنون، كما جاء في كل تلك التعليقات.
وفي تقديري أن هذه الرؤية الإيجابية لعدد من الآراء التي تمنت مشاهدة المصري القديم والفنون المصرية التاريخية ذات الصلة بالثقافة المحلية المصرية لهي رؤية تؤكد حقاً حتمية قيام المؤسسات الثقافية والمجتمع المدني بعملية إعادة إطلاق تلك الفنون المصرية المحلية بطابع معاصر يجعلها تصل للعالم كله.
أما على صعيد التخصص النقدي الدقيق، فيمكن رؤية مشكلة تعدد الموضوعات وكثرة الأفكار وعدم اتصالها كوحدة موضوعية إبداعية تعتمد وحدة الأسلوب كطريق لوضوح الفكرة، وارتفاع نبرة الرسالة بصوت واضح جداً بينما ربما كانت تحتاج لبعض من الغموض الفني الممتع وقدر أكبر من البساطة، فهي مجرد رؤية نقدية يجب تقبلها في إطار تقبل النقد، والذي إذا لم يحدث تكون العملية الإبداعية غير مكتملة.
إذ أن النقد هو الصوت المتخصص للجمهور المتلقي، وهو القادر عن تفسير ردود ا لأفعال في دراسات الاستقبال.
أما القدرة على الإبهار وعلى تحقيق اهتمام الجميع في الداخل المصري وحول العالم فقد حققها عرض الافتتاح بالتأكيد.
فهل يمكننا أيضاً في ضوء هذا الزخم الكبير إطلاق دراسات وحلقات نقاشية عملية حول مثل تلك الفعاليات الفنية الكبرى لتحديد وتجديد أمثلة عن علاقة الأجزاء بالكل في ضوء نظريات الإدراك العملية، لنفهم حدود التفاصيل الكثيرة جداً وإمكانية إدماجها في وحدة كلية عبر علاقة الكل بالأجزاء.
وأيضاً أسئلة عن الفارق الجوهري بين المشاهد الواقعية والمشاهد الفنية التي يغادر المؤدي فيها شخصيته الواقعية إلى عالم الخيال.
وأسئلة تستدعي النقاش حول مسألة إشباع الدلالة في الفنون التعبيرية المصرية المعاصرة عبر تأكيد الفكرة بكل الأدوات المسموعة والمرئية، ذلك وصولاً إلى مفهوم الجمال في مصر القديمة وفنونها والذي يعتمد رهافة الدلالة وتفردها.
وإذ يخبرني النقد بوصفه علم شرطه الحياد، أن تلك المشاهد الإبداعية الكثيرة في حفل الافتتاح في حالة إعادة إطلاقها كأجزاء إبداعية منفصلة، سوف تذهب للجمهور في مصر بالتأكيد كي يتأملها ويتمتع بجمالها عبر قانون إدراك الأجزاء الواحدة، وهي مسألة ذات صلة بعلم التلقي ودراسة الجمهور العام.
وفي ذلك يبقى أن أثمن العرض المبهر في الافتتاح التاريخي للمتحف المصري الكبير، كما أثمن الذائقة الإبداعية المصرية في التلقي وحيويتها في التعبير النقدي عن نفسها وهي دليل على حيوية الثقافة المصرية الشعبية المعاصرة، وعلى إيمان عدد من النقاد بأهمية دورهم النقدي لأن هدف النقد النهائي هو التواصل الجماعي وإدراك الدروس من أجل الإبداع في المستقبل.
وهو مستقبل نتمناه محتشداً بفنون مصر القديمة حية وحاضرة ودالة على الخصوصية الثقافية العالمية لمصر.
هكذا نفكر وهكذا نحلم وهكذا نتمنى.






