وهم الحرية في زمن السوشيال ميديا( الحريه المعلقة بين اللايك والترند)

النائبة/ايفا فارس تكتب..
في البدء كانت المرآة صامتة.
كان الإنسان يقف أمامها ليتأمل ملامحه في هدوء، يبحث عن ذاته بين الضوء والظل.
لكننا اليوم أمام مرآة لا تعرف الصمت: مرآة السوشيال ميديا.
كل فعل فيها يخرج من الخاص إلى العام، وكل سر فيها يصبح خبرًا، وكل لحظة تتحول إلى لقطة قابلة للاستهلاك.
هنا، على هذه الشاشة الصغيرة، تُعرى الذات أكثر مما تُعري الجسد.
حين قررت إحدى البلوجرز حلق شعرها أمام ملايين المتابعين، لم يكن المشهد مجرد قصة عابرة؛ كان رمزًا لعصر كامل يعيد صياغة معنى الجمال والحرية، ويحوّل الإنسان من كائن حي إلى “محتوى” ينتظر الأحكام.
*الحرية كعرض… والاستعراض كحرية
في عالم المنصات، لا يوجد فعل بريء.
حتى قرار بسيط مثل قص الشعر أو حلقه، لم يعد تجربة خاصة تحمل دلالة وجودية، بل صار جزءًا من اقتصاد الانتباه، من السوق الضخمة التي تتغذى على مشاعرنا وصدماتنا.
نظن أننا نتمرد، لكننا في الحقيقة نعيد إنتاج عبودية جديدة: عبودية التصفيق واللايك والترند.
الحرية هنا تصبح مرآة تراقبنا، نعيش بداخلها لننال القبول، لا لنكون أنفسنا.
*المراقبة الناعمة
لم تعد هناك سلطة خارجية تراقب الأجساد فنحن بأنفسنا نصور ونبث ونفكك أسرارنا وننتظر حكم الجمهور.
صرنا كائنات عارية، لا بالجسد وحده، بل بالروح والفكر والخصوصية.
هذا العري النفسي هو الخطر الأكبر:
• يجعلنا نقيس قيمتنا بما يقوله الآخرون عنا.
• ويعيد تشكيل معايير الجمال داخلنا وفق الخوارزميات.
• ويخلق جيلًا يظن أن الوجود الحقيقي هو الوجود أمام الكاميرا.
*أثر ذلك على الأجيال
في ظل هذه البيئة، ينشأ المراهقون وكأنهم يعيشون أمام كاميرا دائمة التشغيل.
يتعلمون أن الهوية “قصة تسرد” لا “تجربة تعاش”، وأن الجرأة هي الصدمة البصرية لا البناء الداخلي.
يصبح الغياب عن الشاشة موتًا رمزيًا، والحضور المستمر شرطا للبقاء.
وهكذا، بدلا من أن تكون السوشيال ميديا وسيلة للتعبير، تتحول إلى أداة لتشكيل وعي جماعي هشّ، قائم على المقارنة، والضغط النفسي، والبحث المحموم عن القبول.
*المأزق الوجودي
في العمق، نحن أمام سؤال وجودي عميق:
هل نعيش داخل هذه المنصات لنكشف أنفسنا أم لنختبئ خلف صورة جديدة؟
هل حلق البلوجر لشعرها كان تحررًا حقيقيا، أم لحظة انصياع خفي لقوانين الترند؟
هل أصبحنا نكسر الصور النمطية فعلا، أم نعيد تدويرها في قالب أكثر إثارة؟
*نحو حياة أصيلة
ربما لا نستطيع مغادرة هذا العالم الرقمي، لكن يمكننا أن نعيد تعريف علاقتنا به:
• أن نعلم أنفسنا وأجيالنا أن الوجود ليس مرادفًا للظهور.
• أن نفهم أن الجمال أعمق من الصورة، وأن الحرية ليست فعلًا صادما بل بناء هادئ ومستمر.
• أن نسترد لحظاتنا الداخلية قبل أن تتحول كلها إلى “محتوى” يباع ويشترى.
⸻
واخيراً يبقي سوال؟
ربما السؤال الأكبر في عصر السوشيال ميديا ليس: “ماذا نفعل؟”
بل: “لمن نفعل؟”
هل نعيش لأنفسنا أم لعيون الآخرين؟
هل نكتب حكايتنا أم نؤدي دورًا كتبه لنا الخوارزم؟
في النهاية، كل واحد فينا يحتاج لحظة صمت خارج الشاشات، ليتأمل وجهه في مرآة صامتة، ويعيد اكتشاف ذاته بلا تصفيق ولا تصويت. عندها فقط ربما نستعيد معنى الحرية الذي فقدناه ونحن نركض في مسرح الضوء