دائرة القتل والإعتذار العبثية في فلسطين …قراءة درامية

بقلم د. حســام عطـــا
استوقفني خبر عابر إنتشر في عدد من المواقع الإخبارية المصرية والعربية، الثلاثاء الماضي الخامس والعشرين من مارس 2025، يستعيد أصداء فيلم لا أرض أخري الحائز علي جائزة الأوسكار في إخراج الأفلام الوثائقية هذا العام.
ففي ظل حرب الإبادة الجماعية التي يشنها الكيان الصهيوني علي الفلسطينين في غزة، يستعيد مركز التفكير الإعلامي اليهودي مخططاً يحتاج للإستدراك، وهو نسخة رديئة من تفكير هوليوود الذي يدعم غزة وفلسطين متعارضا مع التوجه الأمريكي المنحاز لإسرائيل.
إنه مشهد جديد، وهو ليس مشهدا سينمائيا بل هو دراما الواقع، مشهد حاول كاتبه اليهودي إستعادة لحظات إنسانية ثمنها عدد كبير من أهل السينما والكتاب والفنانين الذين إحتفلوا بفكرة الفيلم وبالتعاون بين المخرج الإسرائيلي المشارك في الفيلم يوفال أبراهام والمخرج الفلسطيني حمدان بلال.
ولكن هذه المرة عبر متابعة أبراهام لقضية إعتقال حمدان بلال حيث كتب مدافعاعن صديقة:
(بعد أن قضي الليلة، مكبل اليدين، وتعرض للضرب داخل قاعدة عسكرية، أصبح حمدان بلال الآن حرا، وهو في طريقه إلي منزله وعائلته).
ومن المعروف أن المخرج الفلسطيني بلال الحاصل علي الأوسكار قد أصبح يمثل قيمة رمزية نسبية في العلاقة السلمية بين الفلسطيني والإسرائيلي، كما أنه ليس مواطنا غزاويا، ويعيش في الضفة الغربية.
وقد تم إعتقاله إثر هجوم مجموعة من المستوطنين الإسرائيلين بعضهم ملثمون ويحملون أسلحة ويرتدون زيا عسكريا، علي قرية سوسيا بالضفة الغربية.
وإذا يبدو مشهد الإفراج عن المخرج المعتقل بدعم صديقه الإسرائيلي وبدفاع وحضور المحامية الإسرائيلية أيضا ليا تسميل، وهي محامية شهيرة بدفاعها التاريخي عن المتهمين الفلسطنيين الفقراء أمام المحاكم الإسرائيلية، إنها الثمانينية الحكيمة المولودة في يافا عام 1945، والتي عادت للحضور العام في تلك القضية الأخيرة والتي نجحت فيها بحصولها علي قرار الإفراج، بينما تواصل إسرائيل قصفها الجوي وقتلها للأطفال والنساء والمدنيين، يبدو مشهدا إنسانيا يحاول التخفيف من الصورة الذهنية بالغة السوء للإسرائيليين هناك في الأراض المحتلة.
مما جعلني أنتبه مجددا وأطرح على نفسي سؤالا هاما:
أين تأثير اليسار الإسرائيلي وأين أصوات وتأثير اليهود في إسرائيل ممن نادوا وبشروا بعملية السلام؟
وهذا الأمر جعلني أستعيد المعاهدة الأولى للسلام عام 1978 إذ تعهدت إسرائيل أمام المجتمع الدولى في إطار المعاهدة بين مصر وإسرائيل على إنشاء حكم ذاتي إداري في غزة والضفة الغربية خلال سنوات خمس، وهو ما لم يحدث حتى الآن.
فهل هناك الآن في إسرائيل قوى من المجتمع اليهودي لديها رغبة حقيقية في إيقاف تلك المجزرة؟ وهل علينا الإستمرار في تذكير العالم ببدايات الحل السلمي وحرص إسرائيل على عدم الوفاء بتعهداتها بشكل منتظم؟
وهل تقوم إسرائيل الآن عبر تلك المشاهد البسيطة، بشأن إستجواب لوزير الداخلية هناك في الكنيست عن المخرج المعتقل تقدم به نائب عربي، وعبر تغريدة صديقه الرافضة للإعتقال، وعبر حضور ليا تسمبل في الدفاع عن حقوق الإنسان الفلسطيني ببعض من اللمسات البسيطة المسموح بها؟ وترويجها في الإعلام الدولي لتجميل نسبي لوجه حرب الإبادة الجماعية والتطهير العرقي؟
ورغم أنها مشاهد درامية مرتبطة بعملية إعتقال لمخرج فلسطيني لديه إعترافا دوليا إلا أن الإفراج السريع عنه والإشارة للحضور الذي يبدو تسويقه وكأنه حضور برلماني يمكن لنائب عربي أن يوجه فيه إستجوابا لوزير داخلية دولة الكيان الصهيوني، إنها بعض من المناورات الدرامية والحبكات التي تقوم على صنع صورة غير حقيقية لديموقراطية ما في هذا الإحتلال الدموي.
وتبقى عملية التقسيم العنيفة لأرض الفلسطينيين وترحيلهم منها في ثلاثة عشر نقطة إستيطائية جديدة مسألة تشير إلى الإستيلاء المستمر خطوة خطوة على الصفة الغربية التي لم تشارك في هجوم السابع من أكتوبر.
كما يمكن ملاحظة المظاهرات التي طالبت بإيقاف الحرب مؤخرا في إسرائيل حقا لعائلات الأسرى لدى حماس، وليس لفتح مسارا ما حول إعادة الحوار بشأن التوقف عن الحرب بين جيش منظم ومجموعة مقاومة وافقت على الهدنة، إلتزمت بها.
مما يخفض من توقعات التأثير الحقيقي لقوى اليسار هناك وللمتظاهرين من أجل السلام وخططه وإتفاقاته المتعددة، وما طرح عن أرضية مشتركة من التفاهم بين المسلمين واليهود والمسيحين هناك، وهو ما سعت إليه العديد من المنظمات الدينية أيضا مثل برلمان الأديان، وحوار ممثلي الأديان الثلاثة الذي يقدم نفسه باحثا عن الديانة الإبراهمية وساعيا في إتجاه التقارب بين الأديان كمدخل لحل المشكلات السياسية والإقتصادية في فلسطين والمحيط الإقليمي.
ويبدو أن ذلك قد أصبح أمرا في خلفية الإهتمام، فهل حقا اليهود الذي إختفت مظاهراتهم المنتظمة في أوروبا وأمريكا ضد الحرب على غزة وتحول مسارها داخل إسرائيل لمظاهرات الإفراج عن الأسرى الإسرائيليين تحت القصف، كانوا يعتبرونها فعاليات تكاملية عبر التضاد مع أفعال الإحتلال الدموية، وبها يحاولون تحسين صورة العدوان الغاشم على غزة ونزع أصحاب الأرض الأصليين من أرضهم والتوسع الإستيطاني في الضفة الغربية؟
وهذا يعيدنا لسنوات ماضية ولمشاهد تاريخية علت فيها موجة الحل السلمى وأبرزها إتفاق أوسلو، والذي جاء على أرض الواقع بحصار عرفات ومرضه ورحيله.
لتبقى مشاهد التضاد الإعلامية والمظاهرات حول العالم، تحتاجوا للإستدارك وإعادة التفكير والتأمل.
فهل ما يحدث يمكن تأمله في ضوء تصريحات سابقة منذ سنوات للحاخام سكوت سلارسكي في إطار التكريس لفهم يفرق بين اليهود، والصهاينة وهو الذي صرح بأن:
“إسرائيل هي المكان الوحيد الذي يحظى بالأغلبية اليهودية، ويجب معالجة السكان وفقا لتقاليد ديننا، إننى لا استطيع أن أقدم أية مبرارات لممارسات إنتهاك حقوق الإنسان التي تمارس ضد الشعب الفلسطيني” هكذا قال.
أين ذهب هذا الحوار والسماح لرئيس الجمعية الإسلامية في سان فرانسسكو، إلى جانب ريتا سميل التي شغلت منصب زعيم الجالية اليهودية هناك، بالصلاة الإسلامية في مركز يهودي ديني.
أين ذهبت كل تلك الصور؟ وأين ذهب يهود العالم الغاضبين من أجل فلسطين؟ وأين ذهب يهود إسرائيل الذين حاولوا الضغط لإيقاف الحرب التي أساءت لإسرائيل وصورتها وباتت تجعل كل تلك المشاهد الساعية نحو الحل، وكأنها كانت مفارقة درامية تظهر غير ما تبطن وتحمل طابع المناورة؟
فهل حقا علينا المزيد من الحذر في تأمل الفعاليات الفنية والإحتفاء بالمظاهرات اليهودية حول العالم؟ وغيرها من الفعاليات الثقافية اليهودية ضد الحرب على غزة.
أعتقد أيضا أن قوة النار القادرة على الإبادة الجماعية والتطهير العرقي والتي تتبعها قوة الإعتذار الرقيقة، هي عملية تجميل لوجه إسرائيل القبيح الذي مارس الإبادة الجماعية والتهجير القسري والتوسع الإستيطاني المستمر.
إنها دائرة فعل عبثي أيضا فهناك من يقتل ثم يأتي من يعتذر، ويتظاهر ويدافع عن حقوق الإنسان الفلسطيني من ذات الديانة اليهودية متعللين بترسيخ الفصل بين ما هو يهودي وصهيوني، وهي مسألة تحتاج حقا لتأمل العلاقة بين التكامل عبر التضاد فالصهيوني يقتل واليهودي يعتذر ويتحدث عن الروح الإنساني والعيش المشترك.
ولذلك فهي حقا دائرة عبثية مفرغة، دائرة القتل ثم الإعتذار، مثل دائرة القتل ثم الإستنكار والإدانة.
أنها دراما الواقع العبثى والتي تجاوزت دراما اللامعقول بكثير.






