لعبة الرياح الأربعة اول مسرحية عرفتها البشرية

كتب : محمود حسن
يقول الدكتور حسام عطا أستاذ النقد بأكاديمية الفنون المصرية عن مسرحية لعبة الرياح الأربعة التي كتبها المصري الفرعوني القديم
يري الدكتور ثروت عكاشة أنها رغم كونها تبدو قطعة تنتمي للغناء الراقص إلا أنها تحتوي علي ميزتين، فهي وإن لم تكن نصا مسرحيا مكتملا “فإن الحوار الذي ينتظمها حوار تخاطبي يتصل بالمسرح أكثر من اتصاله بالطقوس الدينية”.
أما الملاحظة الثانية فهي ما أسماه عكاشة (خطوط الإخراج المسرحي) فهي إرشادات مسرحية واضحة ينطبق عليها المصطلح المسرحي القديم والمتداول حتي الآن وهو (الإرشادات المسرحية) التى تصف المكان والملابس والإطار العام الذي يدور فيه الحوار والحدث وتتحرك في عالمه الشخصيات المسرحية.
وجدير بالذكر أن لعبة الرياح الأربعة تم تجميعها وفهم عقدتها وتفسيرها من أكثر من مصدر منها برديات بمتحف برلين وبرديات بالمتحف البريطاني وجزء من نص متون التوابيت وأثر يشير إليها بنصب تذكارى للممثل المسرحي المكتشف في إدفو ومصادر علمية أخري، فهي لم تصل إلينا حتي الآن كمسرحية مكتملة شأنها شأن الشذرات المسرحية الناقصة الكثيرة التى تم اكتشافها في التراث المسرحي المصري القديم.
الهام للغاية أن ما تمكن عكاشة من تجميعه قد أصبح متنا أساسيا يمكن الاستناد عليه لتقديم لعبة الرياح الأربعة ضمن سياق أسطورة إيزيس أوزوريس في أحد الأماكن الأثرية الحية بسفح الهرم أو بمدينة الأقصر، ليراها الجمهور طوال العام، كعرض ثابت ضمن سياق حي لعروض سردية فيلمية مثل الصوت والضوء، لكنه بالتأكيد سيكون أكثر حيوية وإنسانية مع إمكانية تقديمه في قالب مسرحي معاصر يستند للمسرح الشامل، الذي يحتوي الغناء والرقص والإضاءة والسينما، مع الاحتفاظ التام بالنص الأصلي المصري القديم الذي رأي عكاشة ضرورة صياغته بالعربية الفصحي، وإن كان من الممكن تقديمه بالعامية المصرية، وضرورة استلهام الموسيقي المصرية القديمة علي ندرة المختصين فيها.
والمسرحية ذات طابع عالمي فكل شخصية من الفتيات تمثل ريحا يرمز للجهات الأربعة الأصلية الشمال والجنوب والشرق والغرب، وفيها إشارات لوحدة الكون ووحدة الإنسانية، أما الشخصية الخامسة التى تحاول سرقة الرياح وإغواء الفتيات، فلما فشلت تلك الشخصية الخامسة التى يشار إليها (بالعالمة) بمعني العارفة بالأمور، فهى تضرب الفتيات وتملك الرياح الأربعة بالقوة.
من هي؟ هل هي إيحاء بروح مركزي قوي يريد إدارة رياح الكون؟ هل هي إشارة إلي ضرورة وجود قوة تدير رياح العالم؟ إن العالمة هنا تستخدم القوة للسيطرة علي نظام الكون، وهو التفسير الإنساني الدنيوي، أما مسألة ديمومة الروح وخلودها بالسيطرة علي رياح الدنيا الأربعة، فربما تأخذنا لأمر يمكن تفسيره في إطار الديانة المصرية القديمة المولعة بالخلود؟ هل هي مصر التي أرادوها مركزا لمعرفة العالم، هل هي روح مصرية ملكت العلوم والفنون والحضارة واحتفلت بكل جهات الأرض الأربعة.
وبتأمل لعبة الرياح الأربعة يمكن فهمها على نحو أنها “محاكاة الرقص لحركات الظواهر الطبيعية، حيث يرمز الفنان إليها بكلمة ريح، فهذا اللفظ والرسم كذلك يسمحان لنا بتخيل ما كانت عليه الرقصة كاملة”
وبشكل موضوعي ينظر لها نظرة تاريخية بعيدا عن إمكانية استلهامها استلهاما معاصرا، إذ يمكن وصفها بأنها قطعة من الأدب الغنائي المصري القديم، وهي مع أنها لم ترد بين الأعمال المسرحية التي ورد ذكرها في كتاب الأب دريتون في المسرح المصري القديم، فإن فيها حوارا يصاحب حركات المحاكاة البهلوانية.
ولكنها على هذا لم تبلغ المستوى المسرحي المعروف لاختفاء نصها، فظهوره كان في كتاب سحري في النص رقم 162، من متون التوابيت”
وما بقى منها من أناشيد محفوظة للآن هو إنشاد الفتيات لريح الشمال بأنها الريح العظيمة ريح الحياة، التي تحمل سفن الأيونيين، ثم فتيات ينشدن لريح الجنوب التي تحمل الماء، والتي تهب في صورة زنجي الجنوب.
إلا أن غناء ريح الشرق والغرب يبقى مفقودا، ولكن ما بقي لنا هو تلك الفتاة المندسة التي تقوم بدور عالمة، وتحاول أن تنتزع من الفتيات كنزهن الثمين، وتحاول خداعهن وتخاطبهن بألقابهن ملقية السلام عليهن، وتحاول استمالتهن بالطعام وإستغلال فضول الفتيات حتى تستولي على كنزهن.
“ثم تظهر لوحة في مقبرة أمير من أمراء بني حسن، وهو خمنمحوتبي الذي عاش في عصر سنوسرت الثاني (1987 – 1877 ق.م) … لنرى فيها الريح الخامسة، وهنا حل لاختفاء نهاية اللعبة، فقد ظهرت على جدران مقبرة خمنمحوتبي العالمة، وهي الفتاة الخامسة التي ترفع قبضتها اليمنى وتمسك بشعر الفتاة – فتاة الرياح – ، وترفع قبضتها اليمنى كما لو كانت تهم بضربها”.( ) إنها إذا محاكاة تمثيلية راقصة مصحوبة بالغناء والإنشاد، وقد كانت كما هو واضح من مصدرها، مرتبطة بالتمثيل في المعبد، ربما أمامه، ربما داخله، إلا أنها تعد من القطع التمثيلية الغنائية الراقصة المرتبطة بالدين، والرقص المصري القديم كان في رابطة وثيقة بالديانات في مصر القديمة.
وما يمكن ملاحظته من الرسوم وهي تعرض لتلك الأجساد الممشوقة الحرة، أن الراقصات في مصر القديمة كن يرتدين “أردية طويلة فضفاضة صنعت من نسيج رقيق شفاف، تسمح بمشاهدة شكل وحركة أعضاء الجسم، كما كن يرتدين في بعض المناسبات مجرد أحزمة ضيقة مزخرفة.
وقد صورت الفتيات في بعض الأحيان دون أن يبدو على أجسامهن أي أثر لملبس، وكأنهن عرايا تماما، ولكن من الصعب الجزم بذلك، إذ لعله يرجع لاختفاء خطوط الرداء من الرسم، أو إغفال الرسام رسمه نظريا لشفافية الأردية المستخدمة”
ويبقى السؤال: أين كانت لعبة الرياح الأربعة تقدم آنذاك، وتجدر الإشارة إلى هذا النص الدرامي كان يقدم ممزوجا بالتمثيل الغنائي أمام موكب يسبقه خمسة أشخاص منشدون، ينشدون نشيدا منقوشا على المنظر في مقبرة الأمير خمنمحوتبي “الذي عاش في عصر سنوسرت الثاني” (1897 – 1877 ق.م).
ففوق جدران هذه المقبرة منظرا لناووس أبوابه مفتوحة … ثم يظهر أمام الموكب خمس من المهرجات توشحن بإزار قصير، وقد سرحن شعورهن على هيئة الأقماع المقطوعة الرؤوس، وهن ترقصن رقصة بهلوانية، وهكذا تتحول أغنية المحاكاة الرياح الأربعة من كونها ترفيها علمانيا إلى شعائر دينية، إذ أن روح تمثال الملك الميت هي الريح العالمة الخامسة التي تستطيع الإمساك بزمام رياح الجهات الأربع الأصلية، وتستطيع بها أن تعيش إلى الأبد.”
ولهذا يمكن فهم ملاحظات عديدة عبر تأمل ما سبق:
الملاحظة الأولى: وجود المهرجات، وهن لسن من الكاهنات، إنهن راقصات يلعب ويمارسن التهريج والحركات البهلوانية وهي صفة دنيوية واضحة.
الملاحظة الثانية: حضور واضح للتمثيل الغنائي في صلة باهتة، لكنها قائمة بالإنشاد الديني.
الملاحظة الثالثة: حضور فكرة القوة القادرة على السيطرة على ما يأتي من الجهات الأربعة المحيطة بالبلاد المصرية.
ولذلك ربما كانت تلك العروض تقدم في الدور الخاصة، أو تقدم أمام المعبد، أو في قاعته الكبرى.
وحضور الطابع الديني هنا باهت نسبيا في إطار فهم محتمل لإشارة الممثل إمحب الحاضر في وصف نصب إدفو كممثل جوال، والذي حصل على لقب “المدير العظيم للقاعة – أوسخت – فلقد كان يقصد القاعة الواسعة، من قاعات الدور الخاصة، والتي كان يهيئها له ولفرقته كبار الأعيان، عندما كانوا يرغبون أن يرفهوا عن أنفسهم بمشاهدة عرض من العروض المسرحية، كما قد يكون في هذا اللقب إشارة إلى القاعة القائمة في كل معبد، والتي تحمل الاسم نفسه (القاعة أوسخت)، والتي لم تكن غير الفناء أو بهو الأعمدة، ولقد كان يكفي الإتفاق مع الكهنة من أجل استخدامها للتمثيل.”
ما يمكن ملاحظته هنا إمكانية الانفصال النسبي الواضح عن الطقس الديني رغم وجود الصلة بين لعبة الرياح الأربعة وبين الدين، ولكنها تلك الصلة القائمة والحاضرة دوما في مصر القديمة بين الدين والحياة.
مما يؤكد إمكانية وجود ذلك التمثيل الدنيوي خاصة أنه مرتبط بالغناء والرقص، مما يفتح المجال أمام فهم لذلك الممثل الجوال إمحب صاحب نصب إدفو، وفرقته وجولاته في كل أرجاء مصر القديمة.
وإن بقيت النصوص الطقوسية ونصف الطقوسية وبعض من شذرات أخرى كلعبة الرياح الأربعة لأنها حفظت في المعابد وأثار الملوك، فما يمكن تصور وجوده من نصوص أخرى علمانية ودنيوية صرفة، لهو أمر مرتبط بالكشف المحتمل عن بيوت المصريين القدماء الطينية التي ذهبت مع الزمن كما ذهبوا، وبقى من الحضارة المصرية القديمة ما هو مرتبط بالمعابد ومقابر الملوك والأمراء. ولربما تكشف الأيام القادمة عن بعض من تلك النصوص الدرامية الخالصة كشفها عن حضور للممثلين وللفرق الجوالة، التي لا تزال امتداداتها حاضرة في ريف مصر، ومدنها المتعددة.
لكن الأمر الهام في لعبة الرياح الأربعة يأتي من كونها تمثيلية غنائية موسيقية راقصة لا صلة لها بأعياد تتويج الملوك ولا عالم الآلهة، والأساطير القديمة رغم الصلة الباهتة مع روح الملك المسيطرة على رياح الدنيا الأربعة.
ويتضح لنا من تأمل ما سبق إمكانية أخذ مسألة أسبقية المسرح المصري القديم على المسرح الإغريقي محمل الجد، كما يتضح من المقاربات التاريخية، والتأثر الواضح عند ايسخيلوس بالمسرح المصري القديم.
كما يمكننا ملاحظة أن المسرح المصري القديم على ارتباطه بالدين وإنتاجه لدراما طقوسية، أمكن رصد دراما نصف طقوسية ظهرت بوضوح.
أما المسرح الشعبي المصري المرتبط بالتجوال والتواصل مع الجماهير خارج دور العبادة، وبعيدا عن حفلات تتويج الملوك، فهو أيضا يظهر بوضوح.
الأمر الهام الذي يجب تأكيده أن المسرح المصري القديم قد عرف الإيهام المسرحي بشكل واضح في حضور الممثلين والجمهور.
إن الإيهام الدرامي المسرحي والوعي به هو جوهر فكرة المسرح والدراما، مما يؤكد صحة افتراضنا بوجود المسرح المصري القديم، وأن المصريين القدماء هم الذين عرفوا المسرح، وقدموه للبشرية.
ويجدر الإشارة لأهمية النظرة المعاصرة التي يمكن أن تقدم النصوص الأصلية المصرية القديمة للجمهور العام الآن، فهي نصوص ملهمة تتجاوز فكرة البحث العلمي لإمكانية العرض المعاصر وإعادة التفسير .
والجدير بالذكر أننا نعمل بجدية وإجتهاد على تنفيذ وإخراج هذا العمل المسرحي التاريخي وتقديمه للجمهور قريبا بمشيئة الله .






